مهنة التدريس هي عملية تربوية تتجاوز نقل المعرفة الأكاديمية إلى الطلبة، حيث تتطلب من المدرس أن يكون مرشداً وموجهاً ومؤثراً في حياتهم الشخصية والفكرية. تعتمد هذه المهنة على مزيج من المهارات التربوية، الاجتماعية، والنفسية، إضافة إلى التخصص العلمي. المدرس الناجح لا يقتصر دوره على تقديم المعلومات، بل يسعى لبناء بيئة تعليمية ملهمة تشجع على التفكير النقدي والإبداع وحل المشكلات. كما يُعَدُّ التدريس مهنة ذات أبعاد أخلاقية، حيث يكون المدرس قدوة للطلاب في التحلي بالقيم مثل المسؤولية والانضباط والتعاون. في النهاية، التدريس ليس مجرد مهنة، بل هو فن يتطلب تفانياً وتطويراً مستمراً لمواكبة تطورات العصر واحتياجات الأجيال المختلفة.
في هذا المقال، سنلقي الضوء على أن المعرفة الأكاديمية، رغم أهميتها، لم تعد وحدها كافية لمهنة التدريس في العصر الرقمي. فقد تطور دور المدرس ليشمل العديد من الأدوار يتطلب الكثير من المهارات الضرورية إلى جانب شرح المعرفة الأكاديمية والتي لن تتم بسلاسة إلا إذا كان المدرس متمكن منها عن فهم واستيعاب وحب. هذه المهارات تساهم في تحسين العملية التعليمية وتجعلها أكثر فعالية وتأثيراً على الطلبة.
الصفات الشخصية للمدرس الناجح
المدرس الناجح هو الذي يتمتع بشخصية قوية تجعل منه قدوةً مؤثرة، حيث يستطيع أن يبني علاقة إيجابية مع طلابه تقوم على الاحترام والثقة المتبادلة ومن هذه الصفات:
الحماس: إحدى أهم صفات هذا المدرس هي الحماس والإخلاص لمادته التعليمية، مما يجعل الطلبة يشعرون بأهمية ما يتم تدريسه ويزيد إقبالهم على مادته وتفاعلهم معها، مما يعزز استيعابهم. عندما يقدم المدرس دروسه بشغف ويظهر اهتماماً حقيقياً بتفاعل الطلبة وتقدمهم، فإن ذلك يحفز فضولهم ويثير اهتمامهم بالمقرر.
التفهم والصبر: إلى جانب الحماس، يتميز المدرس الناجح بالتفهم والصبر، فهو قادر على مراعاة الفروق الفردية بين الطلبة، ويقدم الدعم والتوجيه لمن يحتاجونه. يعامل الطلبة بعدالة ويظهر اهتماماً بشؤونهم التي قد تأثر على مستوى تحصيلهم، مما يعزز شعورهم بالأمان والانتماء.
حس الفكاهة: كما أن حس الفكاهة والقدرة على تلطيف الأجواء صفتان يسهمان في خلق بيئة تعليمية مريحة وخالية من الرتابة تحفز الطلبة على المشاركة والتفاعل بحرية دون خوف من الفشل أو الانتقاد.
التواضع: التواضع واحترام الطلبة يلعبان دوراً رئيسياً في بناء علاقة إيجابية، حيث يشعر الطلبة بأن المدرس يقدرهم ويعاملهم كأفراد يستحقون الاحترام والتقدير. هذه العلاقة القوية لا تنتقص من هيبة المدرس، بل تعززها، إذ يبقى الاحترام متبادلاً بينه وبين طلابه، مما يضمن توازن العلاقة بين الود والاحترافية.
المهارات الأساسية للمدرسين
مهارة التواصل
التواصل الفعّال هو القدرة على إيصال المعلومات بوضوح وبأسلوب يناسب مستوى الطلبة. يحتاج المدرس إلى فهم أن ما يبدو بديهياً له قد لا يكون كذلك بالنسبة للطلبة، لذا من الضروري تبسيط المعلومات والحرص على تقديمها بشكل تدريجي. هذا الأسلوب لا يقلل من قيمة المعرفة ولا من مكانة المدرس، بل يساعد على جعل المعلومات أكثر استيعابًا للطلبة
أثر فقدان هذه المهارة: عدم القدرة على توصيل الأفكار بشكل فعال يؤدي إلى سوء فهم المواد الدراسية وصعوبة استيعاب الطلبة للمفاهيم المتعلقة بالمادة، مما يؤثر سلباً على نتائج التعلم.
إدارة المحاضرة
إدارة البيئة التعليمية بشكل منظم يضمن خلق بيئة تعليمية منضبطة وتفاعلية. يتطلب ذلك من المدرس الحفاظ على الهدوء والنظام داخل الفصل أو المحاضرة، ومنع الأحاديث الجانبية، إلى جانب تحفيز مشاركة جميع الطلبة لضمان حضورهم الفعلي والتركيز داخل الدرس، كما يعتبر إدارة الوقت من المهارات الضرورية وعلى المدرسين اتقان هذه المهارة بحيث يتم تجهيز المادة العلمية ضمن الوقت المحدد للمحاضرة مع وضع في الاعتبار النقاش والمشاركة.
أثر فقدان هذه المهارة: يؤدي فقدان السيطرة قاعة المحاضرة إلى بيئة فوضوية تشتت انتباه الطلبة المنضبطين وتضعف من قدرتهم على التركيز، خاصة عندما يتطلب التعامل مع أعداد كبيرة من الطلبة.
استخدام التكنولوجيا
إجادة استخدام التكنولوجيا هي اليوم من المهارات الضرورية للمدرسين في كل من المدارس والجامعات. التكنولوجيا التعليمية تعزز من تفاعل الطلبة وتجعل المحتوى أكثر جاذبية وملائمة لأجيال نشأت في عصر التقنيات الحديثة. استخدام التكنولوجيا المتطورة ليس خيارًا، بل ضرورة لمواكبة احتياجات الطلبة. رغم ان المدرس الناجح يتمكن من جعل محاضرته ممتعة، إلا ان هناك كثير من الأدوات التكنولوجية قد دعمت المدرس لإضفاء حيوية أكثر للمحاضرة وجذب انتباه ومشاركة الطلبة.
أثر فقدان هذه المهارة: تقديم الدروس بطرق تقليدية لم تعد تجذب اهتمام الطلبة في هذا العصر الرقمي، مما يجعلهم أقل تحفيزًا للتعلم. في المدارس، يمكن للمدرسين استخدام الأدوات التفاعلية لزيادة تفاعل الطلبة إلى جانب استخدام أنظمة إدارة التعلم وأدوات البحث العلمي المتقدمة.
التفكير النقدي وحل المشكلات
تشجيع الطلبة على التفكير النقدي وحل المشكلات هو جزء أساسي من مهمة المدرس. هذه المهارة تتطلب من المدرس أن يطرح أسئلة عميقة تحفز التفكير المستقل والإبداعي، وتوجه الطلبة نحو التحليل والتقصي. جميعا نعلم ان هذه الأجيال يعيشون في عصر المعلومات التي تتوفر بأبسط الطرق ولذا على المدرسين تأهيلهم حتى يكونوا على دراية كيفية معرفة صحة المعلومة وكيفية نقدها، وكيفية حل ما يصادفهم من مشاكل مستندين للمعلومات الصحيحة ومبتكرين الحلول الجديدة وتحليل نظريات معقدة وإيجاد رؤى جديدة.
أثر فقدان هذه المهارة: يؤدي غياب هذه المهارة إلى تلقين الطلبة دون تشجيعهم على التفكير والتحليل، مما يجعل المعرفة غير مرنة وغير قابلة للتطوير. كما تتطور شخصياتهم وقدراتهم مستقبلا بشكل محدود الأفق ويعتادوا على استقبال المعلومة دون فهم او استيعاب، متلقيين دون انتاج معرفة جديدة.
المهارات الاجتماعية والعاطفية
يتعين على المدرسين فهم ودعم احتياجات الطلبة النفسية والاجتماعية، خاصةً مع التنوع الكبير في شخصيات وبيئات الطلبة. المدرس ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل هو موجه أيضاً، وقد يحتاج إلى توجيه الطلبة ومساعدتهم على مواجهة التحديات الشخصية التي قد تؤثر على أدائهم الأكاديمي.
أثر فقدان هذه المهارة: يؤدي عدم تلبية احتياجات الطلبة العاطفية والاجتماعية إلى فقدان الثقة بين المدرس والطالب، مما يضعف الحافز للتعلم. يتطلب الأمر توجيه الطلبة نحو الاستقلالية والمسؤولية الشخصية.
التعلم المستمر والتطوير المهني
المعرفة ليست ثابتة؛ فهي في تطور مستمر، لذا من المهم أن يحرص المدرسون على التعلم المستمر ومواكبة أحدث التطورات في مجالات تخصصهم، سواء من الناحية الأكاديمية أو التربوية، هذا يضمن تقديم محتوى محدث باستمرار واستخدام أساليب تدريس متطورة ومتوافقة مع الجديد في أساليب التدريس. ويجب على المدرسين العلم ان الأجيال المتلاحقة عليهم، تمتلك المعرفة أسرع لذا عليهم تحديث المادة العلمية وأتباع النقاش والمشاركة والعمل الجماعي والمسابقات التنافسية الودية التي تكون أفضل للأجيال الجديدة لفهم وتدوير المعرفة.
أثر فقدان هذه المهارة: يصبح المدرس غير قادر على تقديم معلومات حديثة أو استخدام استراتيجيات تعليمية جديدة، مما ينعكس سلبًا على تعلم الطلاب. يُطلب من مدرسي الجامعات متابعة آخر الأبحاث العلمية والمساهمة في نشر المعرفة من خلال البحث العلمي وتشجع طلابهم على المساهمة العلمية.
مفاهيم خاطئة شائعة في البيئة التعليمية
يعيش المجتمع، بشكل مباشر أو ضمني، تحت تأثير مجموعة من المفاهيم الخاطئة التي تسهم في رتابة الحياة التعليمية وتحدّ من إبداع الأساتذة وتفاعلهم. هذه المفاهيم، إن لم تُصحح، تؤدي إلى تعزيز طرق تدريس تقليدية لا تواكب التغيرات الحديثة. يمكن لهذا المعلومات أن تشجع على إعادة التفكير في المفاهيم السائدة حول التعليم، ويوضح أن التعليم الناجح يتطلب التوازن بين المهارات التقنية والشخصية، مع استعداد دائم للتعلم والتطوير. من بين هذه المفاهيم الخاطئة:
العودة للتعلم أو حضور دورات تدريبية يعزز فكرة أن المدرس عاد طالبًا مرة أخرى: يعتقد البعض أن مشاركة الأساتذة في برامج تعليمية جديدة أو تحسين مهاراتهم عبر دورات تدريبية قد يُنظر إليها على أنها تقليل من مكانتهم المهنية وتقلل من هيبتهم. في الواقع، التعلم المستمر هو مفتاح النمو المهني ويدل على التزام المدرس بتحسين نفسه وخدمة طلابه بشكل أفضل.
استخدام التكنولوجيا قد يهز مكانة المدرس إذا أخطأ في إدارتها: يخشى البعض أن يؤدي استخدام التكنولوجيا في القاعة إلى تعرض المدرس للإحراج في حال حدوث مشاكل تقنية أو أخطاء في استخدامها. ومع ذلك، التكنولوجيا أداة قوية لتعزيز التعلم، والتعامل معها بمرونة وتطوير المهارات التقنية يجعل المدرس أكثر كفاءة في تقديم دروس تفاعلية ومواكبة للقرن الحادي والعشرين كما أن المدرس يصبح قدوة ومثال على أهمية التعليم المستمر.
المبالغة في صعوبة الامتحان تزيد من هيبة المقرر وأهميته: هناك اعتقاد بأن جعل الامتحانات صعبة بشكل مبالغ فيه يرفع من مستوى المادة ويزيد من احترام الطلبة لها. ومع ذلك، التركيز على تعقيد الامتحانات دون مراعاة الفهم الحقيقي للطلاب قد يؤدي إلى إحباطهم، ويقلل من فعالية التعلم.
المبالغة في التصحيح ورفع نسبة الرسوب يعزز من هيبة الأستاذ: بعض الأساتذة يعتقدون أن تشديد التصحيح ورفع نسبة الرسوب يعزز من مكانتهم المهنية. ولكن في الواقع، هذا قد يؤدي إلى إحباط الطلبة وعرقلة تقدمهم، بينما يتطلب النجاح الحقيقي للمدرس التصحيح العادل وتوجيه الطلبة نحو الفهم وتحقيق النجاح المستدام.
التعامل الصارم مع الطلبة يرفع من مكانة الأستاذ: يظن البعض أن الصرامة المفرطة مع الطلبة تضمن لهم الاحترام وزيادة هيبتهم لدى الطلبة. لكن في الحقيقة، خلق بيئة تعليمية داعمة ومتفهمة تعزز من قدرة الطلبة على المشاركة والإنجاز.
تبسيط المقرر واختصاره يجعل الأستاذ مفضل لدى الطلبة: هناك اعتقاد خاطئ بأن تقليل حجم المادة وتبسيطها بشكل مفرط سيساعد في جعل الطلبة يفضلون المدرس أكثر. بينما التبسيط المدروس الذي يركز على الجوهر ويوفر مسارات متعددة للفهم هو الأسلوب الأفضل لضمان تعلم فعال وشامل، كما ان الأمانة المهنية تتطلب ان يلتزم المدرس بإعطاء المادة العلمية بشكل متكامل.
التعلم يتم بنفس الطريقة للجميع: يعتقد البعض أن جميع الطلبة يمكنهم التعلم بنفس الوتيرة أو بطريقة موحدة. لكن الحقيقة هي أن كل طالب لديه أسلوب تعليمي مختلف، سواء كان مرئياً أو سمعياً أو عملياً. الفشل في مراعاة اختلافات الطلبة قد يؤدي إلى تراجع مستويات الأداء لدى البعض.
المدرس لا يحتاج إلى تطوير مهارات التواصل مع الطلبة خارج الصف الدراسي: هناك من يظن أن دور المدرس ينتهي عند الخروج من الصف. ولكن المدرس الذي يبني علاقات إيجابية مع الطلبة خارج الفصل الدراسي، من خلال الاستماع إلى مشكلاتهم وتقديم النصائح، يمكن أن يلهم الطلبة ويساعدهم في التغلب على تحدياتهم الشخصية والدراسية. كما يُعتقد أن التدخل في المشاكل الشخصية للطلبة ليس من اختصاص الأستاذ ، ولكن إظهار الاهتمام بمشاكل الطلبة الحياتية يمكن أن يحسن من مستوى اندماجهم في العملية التعليمية ويسهم في تحسين أدائهم الأكاديمي.
دور المدرس هو تقديم المعرفة فقط: البعض يظن أن دور المدرس يقتصر على نقل المعرفة. لكن في الحقيقة، دور المدرس يمتد إلى توجيه الطلبة في كيفية البحث عن المعرفة وتطوير مهارات التفكير النقدي والمستقل، ما يساهم في إعدادهم للتعلم الذاتي مدى الحياة.
الخلاصة
تكامل المعرفة الأكاديمية مع المهارات التدريسية هو المفتاح لتكوين مدرسين فعّالين في العصر الرقمي. المدرسون الذين يحرصون على تطوير مهاراتهم يقدمون تعليماً عالي الجودة، مما ينعكس إيجاباً على مخرجات التعليم. من خلال تعزيز هذه المهارات، يمكن سد الفجوات الموجودة في العملية التعليمية وتحقيق أفضل النتائج في كل المراحل الدراسية.
دكتورة أروى يحيى الأرياني
أستاذ مشارك - تكنولوجيا المعلومات
باحث ومستشار أكاديمي
لتسجيل متابعة، حتى يصلك الجديد من المدونة الأكاديمية أضغط هنا Dr. Arwa Aleryani-Blog
Comments